السيرة النبوية والعرب قبل الاسلام
الحلقة الثانية
هناك مقولة تغزى الى عمر بن الخطاب رضى الله عنه ,فقد روى انه قال :(انما تنقض عرى الاسلام عروة عروة اذا نشا فئ الاسلام من لا يعرف الجاهلية )(1)
وأظنها مقولة صادقة وصائبة تماما ,لان معرفة العصر الجاهلى ,وكيف كانت أحوال العرب فى ذلك العصر ,ضرورية لمعرفة الاسلام معرفة حقيقية ,ومعرفة النقلة الهائلة التى نقلها للعرب , وكيف ارتفع بهم الى عنان السماء ,فمهما كان أمر العرب , وأمر حضارتهم قبل الاسلام , وهى حضارة ذات قيمة لا شك فيها ,بعد أن كشفت الحفريات الاثرية فى معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية عن أثارها ومعطياتها , التى ربما لا تقل عن مثيلاتها فئ بلاد الشرق الأدنى القديم الأخرى , أقوال مهما كان من أمر حضارة العرب قبل الاسلام ,الا أن ما صنعه الاسلام لهم ,وما صنعوه هم بفضل الاسلام شئ أعظم من ذلك بكثير ,فقد شرفهم الله تعالى بحمل الرسالة السماوية الخاتمة لرسالات الله الى العالمين .
وقد اضطلعوا هم بحملها بأمانة وشرف ورجولة ,وضحوا من أجلها ,وجاهدوا فئ سبيلها بأموالهم وأنفسهم , ونشروها بين الناس ,وبنوا على أساسها حضارة عربية اسلامية , ذات سمات وخصائص خاصة ,وعالمية المحتوى والتوجيهات فئ الوقت ذاته, وقد نوه القران الكريم عن ذلك الفضل الكبير الذي خص الله به العرب , وذلك الشرف والمجد الذي حياهم به بقوله تعالى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم :((وانه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون))سورة الزخرف الاية 44
فدراسة تاريخ العرب ,ومعرفة أحوالهم قبل ظهور الاسلام , أمر ضروري لمعرفة الاسلام نفسه, وتقديره حق قدره.
ومن العجيب أن ذلك التاريخ لم ينل حقه من الدراسة الجادة العميقة حتى الأن , رغم الاهمية الكبيرة التى يمثلها تاريخ ذلك الجزء من العالم للحضارة الانسانية بوجه عام , وللحضارة العربية بوجه خاص.
فمن الحقائق التى لا يماري فيها الا جاحد ,أن شبه الجزيرة الاسلامية بوجه خاص بعد أن شرفها الله تعالى بظهور الاسلام فيها ,على يدي خاتم الانبياء ,محمد بن عبد الله , عليه الصلاة والسلام _قد أدت فى التاريخ البشرى دورا رئيسيا ومؤثرا ,لا يزال تأثيره مستمرا وسيظل بأذن الله تعالى الي أن يرث الله الارض ومن عليها .
ويكاد اجماع علماء الانثروبولوجيا ينعقد على أن شبه الجزيرة العربية هى المنبت للجنس البشرى السامي ,الذى أخذت موجاته تنتشر منها تباعا-بسبب شح الاقوات _منذ الالف الخامسة قبل الميلاد_ على رأس كل خمسمائة سنة تقريبا موجة_ تارة شمالا ,باتجاه منطقة الهلال الخصيب_العراق والشام_لتصنع الحضارات السامية القديمة , وفي مقدمتها , الاكادية والبابلية والاشورية والكلداثية ,والارامية والكنعانية والفينيقية , وتارة غربا ,عبر بو غاز باب المندب , في الطرق الجنوبي للبحر الاحمر , عابرة ذلك البحر , لتسهم في صنع الحضارات الافريقية القديمة , وفي مقدمتها الحضارة المصرية , هذا فضلا عما صنعته في شبه الجزيرة العربية نفسها من الحضارات , بدأت تكشف عن نفسها , وينتظر الباحثون الكثير من مخبئات تلك الحضارات ,مثل المعينية والقتبائية والسبائية والحميرية واللحيانية , وتفرعاتها وامتداداتها نحو العراق_المناذرة في الحيرة _ونحو الشام _الغساسنة_.
وربما تكشف الابحاث والحفريات الاثرية مسقبلا عن المغمور تحت الرمال من حضارات عاد وثمود ومدين .
وأخيرا أهدت شبه الجزيرة العربية للعالم يدا بيضاء جللت الرقاب , فمنها وعلى يد أشرف أبنائها ,بل أشرف أبناء أدم جميعا ,محمد بن عبد الله ,جاءت الرسالة الاسلامية لتشرق على الدنيا بنورها الوهاج , فتضئ الخافقين ,وتهدي الناس بعد الضلال , وتخرجهم من الظلمات الي النور , وتكون أساسا للحضارة العربية الاسلامية بكل أبعادها ومقوماتها واثارها وتأثيراتها فى الحضارة الانسانية بعامة ,وفي الحضارة الاوربية بصفة خاصة .
(1)تفسير المنار ,للشيح رشيد رضا ج1ص24.