السيرة النبوية ومعنى كلمة الجاهلية
الحلقة الرابعة
في ضوء ما تقدم ينبغي أن نعرض لكلمة الجاهلية, وأن نبين ماذا تعني ؟
لأن بعض الناس قد يظن أنها تعنى الجهل المضاد للعلم والمعرفة ,ويرتب على هذا أن العرب قبل الإسلام كانوا أمة جاهلة في كل شيء , وهذا بعيد عن الحقيقة والواقع , لأن كلمة الجاهلية , تعني الجهل بالدين الحق, أي بالتوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى , وتعنى الجهل الذي هو ضد الحلم والتعقل . وليس الجهل الذي دو ضد العلم, لأن القرآن الكريم وصف العرب المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم, فقال تعالى :(كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(سورة فصلت اية 3),وسجل أنهم كانوا يعرفون القراءة, فقال تعالى حكاية عنهم :(أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولً)(سورة الاسراء اية 93).
وقد وصلت لغتهم مرحلة عالية من الرقي ٠ نلحظ ذلك في الشعر
الجاهلي والحكم والأمثال , التي أثرت عن بلغاتهم وفصحاتهم وحكماتهم ؛
والدليل على رقي اللغة العربية , أنهم كانوا يفهمون القرآن الكريم الذي هو أعلى درجات الفصاحة والبلاغة : بل إن كثيرين من عظمائهم أسلموا مأخوذين ببلاغة القرآن وبيانه المعجر , كعمر بن الخطاب ؛ على سبيل المثال.
فمعنى كلمة الجاهلية إذن ليس الجهل المضاد للعلم والمعرفة , وإنما هي
وصف لقوم ضلوا طريق الدين الحق, وكانوا مكابرين معاندين, وأصحاب لدد فى الخصومة , وكان يغلبٍ على مسلكهم الطيش والخفة والنزق , والمفاخرة والاعتداد بالحمية في غير موضعها ؛ ولذلك وردت كلمة الجاهلية في سياق ومناسبات كثيرة دالة على هذه المعانى , من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري , رضى الله عنه : عندما سب بلالا رضى الله عنه وعيره بسواد أمه , يا أبا ذر أعيرته بأمه
قالها النبي ثلاثا إنك امرؤ فيك جاهلية , أي فيك شيء من روح الجاهلية وهو التعالى والعنصرية , وقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل » وما روي عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت عن سعد بن عبادة الأنصاري رضى الله عنه « كان امرؤاً صالحا إلا أنه كانت فيه جاهلية.>>
ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
والمقصود بالجهل هنا التهور والاندفاع . والاسراع إلى الشر.
والمفسرون يفسرون الكلمة في القرآن الكريم بما لا يخرج عن هذا
المعنى , فإبن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لمعنى الجاهلية كما جاءت في سورة القصص اية 55(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)) يقول : إذا
سفه عليهم سفيه وكلمهم بما لا يليق , أعرضوا عنه , ولم يقابلوه بمثله من
الكلام القبيح , ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب . (1) وكذلك يفسر الكلمة
في سورة الفرقان آية 63 : ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ فيقول : إذا سفه عليهم الجهال
بالقول السئ لم يقابلوهم عليه بمثله , بل يعفون ويصفحون , ولا يقولون إلا خير, كما كان رسول الله صلى اله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلما »(2).
فمعنى الكلمة يدور حول السفه والطيش وسوء الأدب , وتلك صفات
يمكن أن يتصف بها أكبر العلماء وأوسعهم معرفة , وهذا مشاهد في حياتنا كثيرا , فبعض الناس الذين يحملون أرقى وأعلى الدرجات العلمية , نجده
أحيانا فى غاية السفه والطيش والحمق وسوء الأدب , بينما نجد إنسانا بسيطا أميا لا يقرأ ولا يكتب , لكنه في غاية التعقل والاتزان وحسن التصرف .
________________________________________________________________________________________________________________
(1)مختصر تفسير ابن كثير ج3 ص18.
(2)المصدر السابق ج2ص 638